الحديث التاسع عشر: شكر النعم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ. وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا
تَزْدروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ" مُتَّفَقٌ عليه1.
[أخرجه: مسلم في
"صحيحه" رقم: 2963 بعد 9, والترمذي رقم: 2513, وأحمد 2/254, 281,
و"الزهد" 97 له]
وفي رواية البخاري :
«إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ
وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَل مِنْهُ» .
|
شرح للمؤلف _رحمه الله_ :
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار
ط الوزارة (ص: 47_49)
يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية
وافية،
فهذا يدل على الحث على شكر الله بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها،
والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعلِ جميع الأسباب المعينة على الشكر.
فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل
الخير، وأوجبه على العباد، فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو
عامة إلا من الله.
وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع
السوء والسيئات. فيستحق أن يبذُل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى
العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر.
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا
الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله. وهو أن
يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم.
فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة
شكر ربه والثناء عليه، فإنه لا يزال يرى خلقا كثيرا دونه بدرجات في هذه الأوصاف،
ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخلق وخلق،
فيحمد الله على ذلك حمدا كثيرا، ويقول: الحمد لله الذي أنعم علي وفضلني على كثير
ممن خلق تفضيلا.
ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم،
فيحمد ربه على كمال العقل، ويشاهد عالما كثيرا ليس لهم قوت مدخر، ولا مساكن
يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه.
ويرى خلقا كثيرا قد ابتلوا بأنواع
الأمراض، وأصناف الأسقام وهو معافى من ذلك، مسربل بالعافية. ويشاهد خلقا كثيرا
قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي، والله
قد حفظه منها____أو من كثير منها.
ويتأمل أناسا كثيرين قد استولى عليهم
الهم، وملكهم الحزن والوساوس، وضيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء،
ومنة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيرا يفوق بهذه النعمة - نعمة
القناعة وراحة القلب - كثيرا من الأغنياء.
ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد
عالما كثيرا أعظم منه وأشد مصيبة، فيحمد الله على وجود العافية وعلى تخفيف
البلاء، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه.
فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي
أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو، ولم تزل نعم الله
عليه تترى وتتوالى. ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في
العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله، ويفقد شكره.
ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم، وتسابقت إليه النقم، وامتحن بالغم الملازم،
والحزن الدائم، والتسخط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله ربا ومدبرا. وذلك
ضرر في الدين والدنيا وخسران مبين.
واعلم أن من تفكر في كثرة نعم الله،
وتفطن لآلاء (1) الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محض فضل الله
وإحسانه، وأن جنسا من نعم الله لا يقدر العبد على إحصائه وتعداده، فضلا عن جميع
الأجناس، فضلا عن شكرها، فإنه يضطر إلى الاعتراف التام بالنعم، وكثرة الثناء على
الله، ويستحي من ربه أن يستعين بشيء من نعمه على ما لا يحبه ويرضاه، وأوجب له
الحياء من ربه____الذي هو من أفضل شعب الإيمان، فاستحيا من ربه أن يراه حيث
نهاه، أو يفقده حيث أمره.
ولما كان على الشكر مدار الخير
وعنوانه قال صلى الله عليه وسلم عنه لمعاذ بن جبل: «إني أحبك، فلا تدعن أن تقول
دبر كل صلاة مكتوبة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» وكان يقول: «اللهم
اجعلني لك شكارا، لك ذكارا. اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأكثر ذكرك، وأتبع نصحك،
وأحفظ وصيتك» .
وقد اعترف أعظم الشاكرين بالعجز عن
شكر نعم الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على
نفسك» والله أعلم.
|
من فوائد الحديث :
تطريز رياض الصالحين (ص:
316_317)
هذا الحديث: جامع لمعاني
الخير.
وفيه: دواء كل داء من الحسد
وغيره.___
* وفي الحديث الآخر: «رحم
الله عبدًا نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه إلى من هو
فوقه، فجد واجتهد» .
* وعن عمرو بن شعيب
مرفوعًا : «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا: من نظر في دنياه إلى من
هو دونه فحمد الله على ما فضَّله به، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به،
وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه وآسف على ما فاته، فإنه لا يكتب شاكرًا ولا
صابرًا» [ت] [1] .
* قال بعض السلف: صاحبت
الأغنياء فكنت لا أزال في حزن، فصحبت الفقراء فاسترحت.
دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
(4/ 395)
قال بعض السلف: صاحبت
الأغنياء فكنت لا أزال في حزن أرى داراً واسعة ودابة فارهة ولا عندي شيء من ذلك:
فصحبت الفقراء فاسترحت
حلية الأولياء وطبقات
الأصفياء (3/ 22)
غَسَّانُ، قَالَ:
حَدَّثَنِي بَعْضُ، أَصْحَابِنَا مِنَ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ:
" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ضِيقًا مِنْ حَالِهِ وَمَعَاشِهِ،
وَاغْتِمَامًا مِنْهُ بِذَلِكَ،
فَقَالَ لَهُ يُونُسُ:
أَيَسُرُّكَ بِبَصَرِكَ هَذَا الَّذِي تُبْصِرُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا،
قَالَ: فَسَمْعُكَ الَّذِي
تَسْمَعُ بِهِ يَسُرُّكَ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا،
قَالَ: فَلِسَانُكَ الَّذِي
تَنْطِقُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
فَفُؤَادُكَ الَّذِي
تَعْقِلُ بِهِ مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا،
قَالَ: فَيَدَاكَ يَسُرُّكَ
بِهِمَا مِائَةُ أَلْفٍ؟ قَالَ: لَا؟ قَالَ: فَرِجْلَاكَ؟
قَالَ: فَذَكَّرَهُ نِعَمَ
اللهِ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يُونُسُ، قَالَ: أَرَى لَكَ مِئِينَ
أُلُوفًا، وَأَنْتَ تَشْكُو الْحَاجَةَ "
فتح الباري لابن حجر (11/
323)
قَالَ بن بَطَّالٍ هَذَا
الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ بِحَالٍ
تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ مُجْتَهِدًا فِيهَا إِلَّا وَجَدَ
مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَمَتَى طَلَبَتْ نَفْسُهُ اللَّحَاقَ بِهِ اسْتَقْصَرَ
حَالَهُ فَيَكُونُ أَبَدًا فِي زِيَادَةٍ تُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ وَلَا يَكُونُ
عَلَى حَالٍ خَسِيسَةٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ هُوَ
أَخَسُّ حَالًا مِنْهُ فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ نِعْمَةَ
اللَّهِ وَصَلَتْ إِلَيْهِ دُونَ كَثِيرٍ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الشُّكْرَ فَيَعْظُمُ اغْتِبَاطُهُ
بِذَلِكَ فِي مَعَادِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَوَاءُ الدَّاءِ
لِأَنَّ الشَّخْصَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ
يُؤَثِّرَ ذَلِكَ فِيهِ حَسَدًا وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ
أَسْفَلَ مِنْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى الشُّكْرِ
إكمال المعلم بفوائد مسلم
(8/ 515)
قال الطبرى: هذا حديث جامع
للخير؛ لأن العبد إذا رأى من فوقه فى الخير طالت (2) نفسه باللحاق به، واستقصر
حاله التى هو عليها، واجتهد فى الزيادة. وإذا نظر فى دنياه إلى من [هو] (3) دونه
تبين نعم الله عليه، فألزم نفسه الشكر.
المفهم لما أشكل من تلخيص
كتاب مسلم (22/ 146)
"إذا نظر إلى ما فضل
عليه غيره من ذلك، فإنَّه يضمحل عنده ما أنعم الله عليه به من النعم ، ويحتقرها ،
فلا يحسبها نعما ، فينسى نعم الله فيها ، وربما حمله ذلك النظر إلى أن تمتد عينه
إلى الدنيا، فينافس أهلها ، ويتقطع لحسرة فوتها ، ويحسد أهلها ، وذلك هو الهلاك في
الدنيا والآخرة."
تحفة الأحوذي (7/ 182)
فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا
نَظَرَ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا اسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِنْ
نِعَمِ اللَّهِ فَكَانَ سَبَبًا لِمَقْتِهِ وَإِذَا نَظَرَ لِلدُّونِ شَكَرَ
النِّعْمَةَ وَتَوَاضَعَ وَحَمِدَ
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ
أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى تَجَمُّلِ أَهْلِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ
دَاعِيَةَ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَمِصْدَاقُهُ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما
منعتا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا
طرح التثريب في شرح التقريب
(8/ 145)
إذَا نَظَرَ لِمَنْ فُضِّلَ
عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ
وَمُعَالَجَةِ النَّفْسِ بِدَفْعِ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ وَجَلْبِ الْحَسَنَةِ
فَهَذَا يَنْبَغِي النَّظَرُ فِيهِ إلَى الْفَاضِلِ لِيُقْتَدَى بِهِ دُونَ
الْمَفْضُولِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَاسَلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا
يَنْظُرُ فِيهِ إلَى الْفَاضِلِ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِقَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ
عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نِعْمَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْفَاضِلِ فِي الْمَالِ
وَالْخَلْقِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي هَذَا إلَى الْمَفْضُولِ
لِيَعْرِفَ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ أَدَّبَنَا
بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ مَصْلَحَةُ
دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَعُقُولِنَا وَأَبْدَانِنَا وَرَاحَةِ قُلُوبِنَا
فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ نَصِيحَتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى بِهِ نَبِيًّا.
التنوير شرح الجامع الصغير
(4/ 287)
فإن النظر إلى من فضل
الإنسان يؤدي إلى استحقاره ما هو فيه من النعم فيستقل النعمة ويعرض عن الشكر وقد
يؤديه ذلك إلى كفران النعمة وأنه ليس عليه شيء من النعم فيكفر نعمة الله عليه وإذا
أعرض عن التأمل في أحوال أهل الدنيا وما وسع عليهم هان عليه ما همه واستكثر ما
أوتي وإذا نظر بعين الحقيقة فالمكثر ليس معه إلا هم الإكثار وشغله اليسار والدنيا
سريعة الزوال قريبة تحول الأموال علم أنهم لا يغبطون بل إنهم يرحمون وأحسن من قال:
طرح التثريب في شرح التقريب
(8/ 146)
وَمِنْ هُنَا يَنْبَغِي
لِلْإِنْسَانِ اجْتِنَابُ الِاخْتِلَاطِ بِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالتَّوَسُّعُ
مِنْهَا وَمِنْ كَسْبِهَا وَنَعِيمِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إلَى هَذِهِ
الْمَفْسَدَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَالَسْت الْأَغْنِيَاءَ فَاحْتَقَرْت لِبَاسِي
إلَى لِبَاسِهِمْ وَدَابَّتِي إلَى دَوَابِّهِمْ، وَجَالَسْت الْفُقَرَاءَ
فَاسْتَرَحْت.
سبل السلام (2/ 614)
الْحَدِيثُ إرْشَادٌ
لِلْعَبْدِ إلَى مَا يَشْكُرُ بِهِ النِّعْمَةَ. وَالْمُرَادُ بِمَنْ هُوَ
أَسْفَلَ مِنْ النَّاظِرِ فِي الدُّنْيَا فَيَنْظُرُ إلَى الْمُبْتَلَى
بِالْأَسْقَامِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى مَا فُضِّلَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ
الْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ كُلِّ إنْعَامٍ،
* وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ فِي
خَلْقِهِ نَقْصٌ مِنْ عَمًى أَوْ صَمَمٍ أَوْ بَكَمٍ وَيَنْتَقِلُ إلَى مَا هُوَ
فِيهِ مِنْ السَّلَامَةِ عَنْ تِلْكَ الْعَاهَاتِ الَّتِي تَجْلِبُ الْهَمَّ
وَالْغَمَّ،
* وَيَنْظُرُ إلَى مَا
اُبْتُلِيَ بِالدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَالِامْتِنَاعِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ
فِيهَا مِنْ الْحُقُوقِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ فُضِّلَ بِالْإِقْلَالِ
وَأُنْعِمَ عَلَيْهِ بِقِلَّةِ تَبِعَةِ الْأَمْوَالِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ،
* وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ
اُبْتُلِيَ بِالْفَقْرِ الْمُدْقِعِ أَوْ بِالدَّيْنِ الْمُفْظِعِ وَيَعْلَمُ مَا
صَارَ إلَيْهِ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَتَقَرُّ بِمَا أَعْطَاهُ
رَبُّهُ الْعَيْنُ، وَمَا مِنْ مُبْتَلًى فِي الدُّنْيَا بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ
إلَّا وَيَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ بَلِيَّةً فَيَتَسَلَّى بِهِ وَيَشْكُرُ
مَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَرَى غَيْرَهُ اُبْتُلِيَ بِهِ،
* وَيَنْظُرُ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الدِّينِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ
الْمُفْرِطِينَ :
فَبِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ يَشْكُرُ مَا لِلَّهِ مِنْ النِّعَمِ
وَبِالنَّظَرِ الثَّانِي : يَسْتَحْيِ مِنْ مَوْلَاهُ وَيَقْرَعُ بَابَ الْمَتَابِ بِأَنَامِل
النَّدَمِ فَهُوَ بِالْأَوَّلِ مَسْرُورٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَفِي الثَّانِي
مُنْكَسِرُ النَّفْسِ حَيَاءً مِنْ مَوْلَاهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ
فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ
مِنْهُ» .
توضيح الأحكام من بلوغ
المرام (7/ 287_288)
* ما يؤخذ من الحديث:
1 - الطمأنينة القلبية لا
تحصل إلاَّ بحسن النظر، والقناعة بما قسم الله للعبد، فإذا قنع نفسه، وألهم شعوره
بنعم الله تعالى عليه، حصلت له راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، ورضيَ بما قسم الله
له؛ فلا تطمح نفسه في أمور الدنيا إلى مَنْ هم أعلى منه، ولا تمتد عيناه إلى من هم
فوقه فيها.
وإذا فعل ذلك، حصل له راحةُ
قلب، وطيب نفس، وهناءة عيش.
وإلاَّ فإنَّه مهْمَا
حصَّل، ومهما زادت أموره الدنيوية، فإنَّه سيجد من هو أحظ منه؛ فلا يزال في شقاء
قلب، وتعب ضمير، وإنهاك بدن، ولهو، وغفلة عن الاستعداد لحياته الباقية، وسعادته
الدَّائمة.
2 - النَّبي -صلى الله
عليه وسلم- أرشد أمَّته إلى طريق القناعة، ودلَّهم على منهج الرضا؛ فأمرهم أنْ
ينظروا في أمر دنياهم إلى من هو أسفل منهم، وأقل منهم حظًّا فيها؛ فإنَّ العبد مهما
افتقر، فسيجد من هو أفقر منه، ومهما مرض فسيرى من هو أشد_____
منه مرضًا، وإنْ كان ذا
عاهة، فسيجد من هو أعظم منه عاهة، وأشد بلاءً، فإذا أمعن النظر، فسيجد أنَّ الله
تعالى فضَّله على كثيرٍ ممَّن خلق تفضيلا.
وهذه النظرة الحكيمة ستريح
قلبه، وتسعد نفسه، وتزيده إيمانًا بربِّه، وشكرًا له على نعمه، وصبرًا على ما
ابتلاه؛ ابتغاء ما عند الله تعالى.
3 - أمَّا النظر في
الطَّاعات والقربات، فينبغي أنْ ينظر إلى من هم أعلى منه، وأنْ يعتبر نفسه من
المقصِّرين، وأنْ يغبطهم على سبقهم، وَيَجِّدَّ في اللحاق بهم.
قال تعالى: {وَسَارِعُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون]، وقال تعالى: {وَفِي
ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين].
وقد جاء في صحيح مسلم
(5664) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن
القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك،
واستعن بالله، ولا تعجز".
وجاء في البخاري (6122)
ومسلم (2823) عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُفَّت
النَّارُ بالشَّهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره".
فتح ذي الجلال والإكرام
بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (6/ 246)
من فوائد الحديث: حُسن
إرشاد النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا الكلام الذي يعتبر قاعدة في النظر إلى نعم
الله، أن تنظر إلى من دونك، نحن لو نظرنا إلى الأغنياء سيارات فخمة وقصور فخمة
أزواج وبنين وأموال، نحن ما عندنا شيء سيارات موديل واحد وتسعين والبيت شعبي،
وأشياء كثيرة لا نحب أن نقولها، هل نحن الآن لو نظرنا إلى من هو دوننا من ليس عنده
بيت ولا زوجة ولا سيارة ولا طعام يكفيه هل ننظر للأول أو الثاني؟ للثاني حتى نعرف
أن الله أنعم علينا بشيء، فالمهمة أن هذه قاعدة ذكرها نبينا (صلى الله عليه وسلم)
وهذه حقيقة ينبغي للإنسان أن يبني حاله عليها.
ومن فوائد الحديث : حُسن
تعليم الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه إذا ذكر الأمر أو الحكم ذكر التعليل،
والذكر التعليل فائدتان: الفائدة الأولى: زيادة الطمأنينة، الإنسان إذا علم الحكم
وعلم حكمته يزداد طمأنينة، وإن كان المؤمن سوف يسلم لأمر الله ورسوله علم الحكمة
أم لم يعلم، لكن كلما علم الحكمة ازداد طمأنينة، ولهذا لما غرس الرسول (صلى الله
عليه وسلم) جريدة رطبة على القبرين، الصحابة أشكل عليهم الأمر لماذا كانت رطبة
يريدون أن يتبينوا الحكمة، والفائدة الثانية لذكر العلة: بيان سمو الشريعة، وأنها
لا يمكن أن تحكم بالأحكام إلا بحكم اقتضت ذلك.
عزاه ابن كثير في البداية
والنهاية (11/ 7) إلى علي بن العباس بن جريج المعروف بابن الرومي